كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة إلى البيت غَنَمًا فقلّدها؛ أخرجه البخاري ومسلم؛ وإلى هذا صار جماعة من العلماء: الشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب؛ وأنكره مالك وأصحاب الرّأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بَلَغ لكنّهم ردّوه لانفراد الأسودَ به عن عائشة رضي الله عنها؛ فالقول به أولى. والله أعلم.
وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أُشعرت كالبُدن؛ قاله ابن عمر؛ وبه قال مالك.
وقال الشافعيّ: تُقلَّد وتُشعرَ مطلقًا ولم يفرقوا.
وقال سعيد بن جُبَير: تُقلّد ولا تُشعرَ؛ وهذا القول أصحّ إذ ليس لها سَنام، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل. والله أعلم.
الخامسة واتفقوا فيمن قلّد بدَنة على نيّة الإحرام وساقها أنه يصير محرمًا؛ قال الله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} إلى أن قال: {فاصطادوا} ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التّقليد عُرِف أنه بمنزلة الإحرام.
السادسة فإن بعث بالهدي ولم يَسُق بنفسه لم يكن محرمًا؛ لحديث عائشة قالت: أنا فتلتُ قلائد هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ؛ ثم قَلَّدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحلَّه الله له حتى نُحِر الهديُ؛ أخرجه البخاريّ، وهذا مذهب مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: يصير مُحرِما؛ قال ابن عباس: من أهدى هديًا حَرُم عليه ما يَحْرُم على الحاجّ حتى يُنحر الهدُي؛ رواه البخاريّ؛ وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جُبير، وحكاه الخطّابي عن أصحاب الرأي؛ واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا فقدّ قميصَه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:
«إني أمرتُ ببُدْني التي بعثت بها أن تُقلَّد وتُشَعر على مكان كذا وكذا فلبستُ قميصي ونسيتُ فلم أكن لأُخرج قميصي من رأسي» وكان بعث ببُدْنه وأقام بالمدينة.
في إسناده عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبِيبة وهو ضعيف.
فإن قلّد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرمًا؛ لأن تقليد الشّاة ليس بمسنون ولا من الشعائر؛ لأنه يُخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البُدن؛ فإنها تُتْرك حتى ترد الماء وتَرعى الشّجر وتصل إلى الحرم.
وفي صحيح البخاريّ عن عائشة أُم المؤمنين قالت: فَتلتُ قلائدها من عِهْن كان عندي.
العِهْن الصّوف المصبوغ؛ ومنه قوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5].
السابعة ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قُلِّد أو أُشعر؛ لأنه قد وجب، وإن مات مُوجِبه لم يُورَثْ عنه ونَفذ لوجهه؛ بخلاف الأُضحِيّة فإنها لا تجب إلاَّ بالذّبح خاصّة عند مالك إلاَّ أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذّبح فقال: جعلتُ هذه الشاة أضْحِيَّة تعيّنت؛ وعليه؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذّبح أو بعدها ذَبَحَها ولم يَجُز له بيعُها؛ فإن كان اشترى أُضْحِيَّة غيرها ذبحهما جميعًا في قول أحمد وإسحاق.
وقال الشافعيّ: لا بدَلَ عليه إذا ضلّت أو سُرِقت، إنما الإبدال في الواجب.
ورُوي عن ابن عبّاس أنه قال: إذا ضلّت فقد أجزأت.
ومن مات يوم النّحر قبل أن يُضحِّي كانت ضحيّته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهَدْيِ.
وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال.
وقال الأوزاعيّ: تذبح إلاَّ أن يكون عليه دين لا وفاء له إلاَّ من تلك الأضْحيَّة فتُباع في دَيْنه.
ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يَصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث.
وما أصاب الأضحيّة قبل الذّبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهَدْى؛ هذا تحصيل مذهب مالك.
وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل؛ والأوّل أصوب. والله أعلم.
الثامنة قوله تعالى: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} يعني القاصدين له؛ من قولهم أَمَّمْت كذا أي قصدته.
وقرأ الأعمش: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} بالإضافة كقوله: {غَيْرَ مُحِلّي الصَّيدِ} والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبّد والقربة؛ وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهيٍ عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بِقلادة، أو أمّ البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] فلا يُمكَّن المشرك من الحج، ولا يؤمَّن في الأشهر الحُرُم وإن أهدى وقلّد وحجّ؛ روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره.
وقال قوم: الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين.
والنهي عامّ في الشهر الحرام وغيره؛ ولكنه خصّ الشهر الحرام بالذكر تعظيمًا وتفضيلا؛ وهذا يتمشّى على قول عطاء؛ فإن المعنى لا تُحِلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلّوه؛ ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة.
وقال مجاهد: لم ينسخ منها إلاَّ {الْقَلاَئِدَ} وكان الرجل يتقلد بشيء من لِحاء الحَرَم فلا يقرب فنسخ ذلك.
وقال ابن جُريج: هذه الآية نهي عن الحُجّاج أن تقطع سُبُلهم.
وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؛ جاء أناس من المشركين يحجّون ويعتمرون فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلاَّ أن نغير عليهم؛ فنزل القرآن {ولا آمِّينَ البيت الحرام}.
وقيل: كان هذا لأمر شُرَيح بن ضُبَيْعَة البَكْريّ ويلقّب بالحُطَم أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عُمْرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا.
وأدرك الحُطَم هذا رِدّة اليَمَامة فقتِل مرتدًّا وقد رُوي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلّف خيله خارج المدينة فقال: إلاَمَ تدعو الناس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وإقام الصَّلاة وإيتاء الزكاة» فقال: حسن؛ إلاَّ أنّ لي أمراء لا أقطع أمرًا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان» ثم خرج من عنده فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم».
فمرّ بسرْح المدينة فاستاقه؛ فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول:
قد لفّها الليل بسوّاقٍ حُطَم ** ليس براعي إبلٍ ولا غَنَم

ولا بجزّارٍ على ظهرٍ وَضَمْ ** باتُوا نِيامًا وابن هندٍ لم يَنَمْ

بات يقاسِيها غلام كالزُّلَّم ** خَدلَّج الساقينِ خَفّاق القَدَمْ

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضِيّة سمع تلبية حُجّاج اليمامة فقال: «هذا الحُطَم وأصحابه».
وكان قد قلّد ما نهب من سَرْح المدينة وأهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه؛ فنزلت الآية، أي لا تُحِلّوا ما أُشعر لله وإن كانوا مشركين؛ ذكره ابن عباس.
التاسعة وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} يوجب إتمام أُمور المناسك؛ ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئًا منها وإن فسد حجُّه؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية.
قال أبو الليث السّمرقنديّ؛ وقوله تعالى: {وَلاَ الشهر الحرام} منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36] وقوله: {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} محكم لم ينسخ؛ فكل من قلّد الهدي ونوى الإحرام صار مُحرِمًا لا يجوز له أن يحلّ بدليل هذه الآية؛ فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض؛ بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ.
العاشرة قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم.
وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله؛ وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار.
قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويرِدون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان.
وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عامٍ سنةَ تسع؛ إذْ حجّ أبو بكر ونودِي الناسُ بسورة «براءة».
الحادية عشرة قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} أمر إباحةٍ بإجماع الناس رفع ما كان محظورًا بالإحرام؛ حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة «افعل» الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب؛ وهو مذهب القاضي أبي الطّيّب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدّم الحظر لا يصلح مانعا؛ دليله قوله تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] فهذه «افعل» على الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا} [الجمعة: 10] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر. والله أعلم.
الثانية عشرة قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} أي لا يحملّنكم؛ عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكِسائي وأبي العباس.
وهو يتعدّى إلى مفعولين؛ يُقال: جَرَمني كذا على بُغْضك أي حَمَلني عليه؛ قال الشاعر:
وَلَقدْ طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنةً ** جَرَمت فَزَارَةَ بَعْدَهَا أن يَغْضَبُوا

وقال الأخفش: أي ولا يُحِقَّنَّكم.
وقال أبو عبيدة والفراء: معنى {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يَكسِبنّكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه السَّلام: «أَدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خَانكَ» وقد مضى القول في هذا.
ونظير هذه الآية {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقد تقدّم مستوفى.
ويُقال: فلان جَريمة أهله أي كاسبهم؛ فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب.
وأجرم فلان أي اكتسب الإثم؛ ومنه قول الشاعر:
جَرِيمة ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ ** ترى لعِظامِ ما جَمَعتْ صَلِيبَا

معناه كاسب قوتٍ، والصلِيب الودك، وهذا هو الأصل في بِنَاء جَ رَ مَ.
قال ابن فارس: يُقال جَرَم وأجْرَم، ولا جَرَم بمنزلة قولك: لابد ولا محالة؛ وأصلها من جَرَم أي اكتسب، قال:
جَرَمتْ فَزَارةَ بعدها أن يَغْضبُوا

وقال آخر:
يا أيها المشتكِي عُكْلًا وما جَرَمتْ ** إلَى القبائِلِ من قَتْلٍ وإبآسِ

ويُقال: جَرَم يَجْرِم جَرْمًا إذا قطع؛ قال الرّمّاني عليّ بن عيسى: وهو الأصل؛ فَجَرم بمعنى حَملَ على الشيء لقطعه من غيره، وجَرَم بمعنى كَسَب لانقطاعه إلى الكسب، وجَرَم بمعنى حق لأن الحقّ يقطع عليه.
وقال الخليل: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] لقد حقَّ أن لهم العذاب.